المشاهدات : 2470
التعليقات: 0

فضيلة الاستغناء

فضيلة الاستغناء
https://ekhbareeat.com/?p=53992

قدم عالم الاجتماع إلياهو كاتز نظرية “الاستخدامات والإشباعات”، قدمت هذه النظرية مدخلاً اتصاليًا سيكولوجيًا لفهم سلوك الأفراد في العالم الافتراضي وماهي الدوافع الشخصية والنفسية والاجتماعية تدفعهم لاستخدام مواقع التواصل الخارجي. وفي هذه النظرية الاستخدام يعني استخدام الفرد لوسائل التواصل لإشباع حاجات وتحقيق أغراض معينة. ويكن تقسيم هذه الحاجات إلى أربعة: حاجات معرفية كالرغبة في فهم المعلومات وتدعيم المعرفة الإنسانية عن طريق الإلمام بحقائقها من البيئة المحيطة. ثانيًا الحاجات الوجدانية، تتمثل في السعي إلى السعادة والصداقات والترفيه. ثالثًا الحاجات الشخصية وهي التي يؤدي تحقيقها إلى تدعيم ثقة واستقرار ومكانة الفرد في المجتمع. أخيرًا الحاجات الاجتماعية وهي التي تُلبي حاجة التواصل الاجتماعي وتقوية الروابط مع أفراد المجتمع. بالنسبة للإشباعات، مواقع التواصل وفرت طريق سهل للإشباع على المدى القصير لكن الجوع على المدى البعيد. فعندما الشخص يضع صورة ما التقطها، أو يشارك كتاباته وأفكاره، أو يعبر عن إعجابه أو استياءه من شيء، هذه كلها تخلق حالة شعورية بالإشباع، وهو ليس كالسابق عندما كان الفرد يحتاج موافقة جهة نشر أو قناة إعلامية حتى يمكنه مشاركة مايرغب به. الآن بنقرة واحدة خفيفة، مايدور في عقلك يجد له مكان حياة وولادة في العالم الافتراضي. وحالة الإشباع هذه تتضاعف عندما يلقى ماتنشره إعجاب واستحسان من الآخرين. لكن عندما تصبح حالة الإشباع مستمرة يصبح الجوع معها أكبر وأكثر تطلبًا من سابقه، تمامًا مثل المعدة، فعندما تتناول الطعام بقدر أكبر من حاجتك بشكل منتظم ومستمر، تتسع المعدة وتصبح بحاجة لاستهلاك كمية طعام أكثر من السابق حتى تصل لحالة الشبع نفسها، و يأتي الجوع بشكل أسرع من السابق، وهذا مايحدث عند خلق حالة إشباع مستمرة في الواقع الافتراضي لأن الوصول لها أصبح أسهل، زر الإعجاب في فيسبوك وانستقرام وإعادة الريتويت في تويتر و زر الاشتراك في يوتيوب، كل هذه أصبحت مداخل لشعور الفرد بالرضا عن نفسه وأنه يجب أن يفعل شيئًا حتى يعيد تجديد شعوره بالرضا والسعادة المؤقتة. ومع تطور الفضاء الإلكتروني وتعدد التطبيقات تطورت أيضًا علاقة الفرد والوسيلة الاتصالية التي يستخدمها، لم يعد يقتصر الأمر على المشاركة والوصول لحالة الإشباع فحسب، بل أصبح الفرد يبحث عن المنصة والوسيلة التي تقدم حالة الإشباع الأقصى وتلبي احتياجاته.

إضافةً إلى ما سبق، العالم الافتراضي خلق مفهوم جديد لتعريف قيمة الإنسان. أصبحت قيمته مرتبطة ارتباط وثيق بإنتاجيته، باتت الصورة السائدة هي ” كن ترس في آلة الإنتاج أولاً وإنسانًا ثانيًا”. قد تعتقد بداية أن هذا ليس مفهوم جديد، وأتفق معك لكن جزئيًا. صحيح أنه مفهوم قدرة الإنسان على الإنتاج مهم في السابق كما في الحاضر، لكن في السابق كان الإنسان يكوّن هذا المفهوم من أرض الواقع وليس من واقع افتراضي، وهنا الفرق، في الواقع لا يمكن بسهولة أن توهم الآخر بشيء ما وتجعله يصدقه ويطبقه على نفسه. ونقطة الاختلاف جوهرية عند مقارنة الماضي مع واقعنا اليوم، الآن تجد الكثير من المُنظّرين الذين يشيدون بأهمية الإنتاج، وآخرون يتفاخرون بإنجازات غير حقيقية وأصبح هذا النداء هو الأكثر صخبًا والسؤال الأكثر أهمية الذي يجب أن تسأل نفسك إياه “كم رصيد إنجازاتك؟”.. والذي يملك رصيد بسيط يُعد من الفئة العادية، ويا للهول ما أقبح أن تصبح عاديًا في مجتمع “افتراضي” يستيقظ من النوم وفي يده شهادة دورة تدريبية جديدة! ليس من العدل أن يقيس الفرد قيمة نفسه بدوره الإنتاجي فقط و “رصيد إنجازاته”، هذا جزء من تكوين الإنسان وليس الكل. فهناك اللحظات المميزة كالاستمتاع بالطعام مع العائلة والأصدقاء، أو خوض حديث طويل شيق أو الضحك على نكتة أُلقيت بعفوية، أو المشي في حديقة، ومثل هذه اللحظات كثيرة هي التي يجب أن يرى الإنسان معنى الحياة فيها.

لذلك يجب التركيز على أنه واقع افتراضي، صحيح أن ليس كل مافيه هو مُضلل، لكنه سهّل عملية المبالغة في الأشياء والتطرف والحياد عن الطريق المعتدل المتوازن، لأنه لا أحد يرى آخر، كلنا نسبح في هذا العالم الافتراضي ولا نعلم عمق أثره فينا. بالإضافة، هذا ليس الاختلاف الوحيد بين السابق واليوم، فـفي السابق أنت ترى الأشياء بدون فلترة أو بفلترة بسيطة، فالشخص أو التجربة التي أمامك تراها بجانبيها الإيجابي والسلبي، لأنه في أرض الواقع يصعب إخفاء جانب كامل دون أن يلاحظه أحد. أما اليوم فأغلب ماتراه هو مُفلتر بعناية شديدة، يختار الفرد مايريد أن يراه الآخرين، يشارك الأشياء التي تبني الصورة التي يتصورونها الآخرين عنه كما يرغب، ويستقطع من شخصيته الكاملة القطعة المثالية ويضعها في هذا الفضاء، فيصبح هذا الفضاء ملئ بالقطع المثالية من كل فرد، ولأنك لا ترى إلا هذه القطع المثالية تظن أن العالم مثالي جدًا وأنك أنت الوحيد الناقص فيه.

أطلقت الجمعية الملكية للصحة النفسية العامة البريطانية تقرير يقيس الصحة النفسية لمستخدمين الإنترنت، والنتائج كانت مفاجأة حيث احتل تطبيق الانستقرام المرتبة الأولى، وجدوا أن ٦٣٪ من مستخدمي التطبيق ذكروا أنهم يشعرون بالتعاسة مع العلم أن معدل استخدامهم للتطبيق كان ساعة واحدة فقط في اليوم. فعلى الرغم من أنه يُصنف التطبيق الأكثر بهجة، نسب التعساء فيه كانت الأعلى. والتفسير المنطقي لهذا أن المستخدمين لا يرون إلا الصور المبهجة واللحظات السعيدة التي يشاركها الآخرين، لأن لا أحد سيضع صورة له وهو تعيس أو وهو يمر بيوم سيء. فكما ذُكر مسبقًا، بسبب عملية الفلترة هذه و رؤية الآخرين في أجمل لحظاتهم، ينخفض تقدير الفرد لذاته. والمثير للاهتمام أيضًا في تقرير الجمعية أن مستخدمين التطبيقات التي تستخدم تواصل بشري تقليدي(مثل تطبيق الفايس تايم أو المكالمات الهاتفية)يشعرون بالسعادة والرضا بنسبة ٩١٪، وهذا يأكد على نقطة أن التواصل الواقعي والحقيقي(بدون فلترة)يخلق لدى الفرد رؤية أقرب صحة للواقع مقارنة بالتزييف والمبالغة التي تقع داخل أسوار مواقع التواصل.

ولنظرًا لكثرة ما يضُج في الفضاء الافتراضي من أخبار ونشاطات، أصبح الفرد يخاف من أن تفوته أي أحداث مهمة تصدح أخبارها في وسائل الاتصال وهو لا يعلم عنها. وأطلق الكاتب باتريك ماكجينيس على هذه الحالة(Fear of missing out): الخوف من فوات الشيء. وقد تكون إحدى أسباب هذه الحالة هي زيادة انفتاح الآخرين في مشاركة حياتهم وبالتالي كثرة المعلومات المتصاعدة في وقت واحد، فيصبح الفرد تحت ضغط اختيار ماهو أفضل خيار موجود من خيارات لمشاهدته ومتابعة أخباره وسط الآلآف من الخيارات، وأيضًا الخوف أنه إذا شاهد أو شارك في حدث معين سيفوته حدث آخر أكثر أهمية أو أكثر متعة. لكن لكل فعل ردة فعل، وكرد فعل عكسي لهذه الحالة بدأ الكثير بتبني المفهوم المعاكس وهو(Joy of missing out): متعة ترك الأشياء. فوفقًا للمجلة الأمريكية لعلم النفس هذا المفهوم يتعلق بشكل جوهري بـ”الحضور والرضا عن مكانك في الحياة”. فمتعة ترك الأشياء تأتي من إدراك أننا لسنا بحاجة لأحد أن يخبرنا ماهي الصورة التي يجب أن تكون عليها حياتنا. فبدلاً من ذلك، نبدأ بتدريب أنفسنا على ضبط الأفكار التي تلح على عقولنا بما يجب علينا فعله، وكذلك تعلم التخلي عن القلق المستمر بخصوص إذا ماكنا الذي نفعله كافيًا أم لا حتى يعتبرنا المجتمع “أشخاص منتجين”. مفهوم متعة ترك الأشياء يتيح لنا عيش الحياة لنا وليس علينا، وتقدير حقيقة حياتنا والاعتراف مايدور فيها من مشاعر وأحداث سواء كانت إيجابية أو سلبية.

ومع غمرة الحياة والغرق بين مشاغلها الكثيرة والتزاماتنا الشخصية ننسى أجابة سؤال صغير من ثلاث كلمات “من يملك الآخر؟” هل نحن من نملك الحياة أم هي التي تملكنا؟ وقد تكون الإجابة ليست موجودة لأننا ببساطة لم نطرح السؤال. من فضائل العيش الكريم هي فضيلة الاستغناء، وهو لا يعني أن تكون بعيد ومنفصل عن الأشياء، بل على العكس، الاستغناء هو أن تكون قريب من كل الأشياء ومع ذلك، لا تتركها تستهلك منك وتستحوذ عليك، كما قيل في هذه العبارة:
“Detachment is not that you own nothing, detachment is that nothing owns you”
فالقوة التي تكمن في الاستغناء ليست بترك الأشياء والعيش باختيارات بسيطة، بل هي بامتلاك كل الخيارات المتاحة ومع ذلك تقرر أن تختار نفسك أولاً.

ختامًا، هذه المقالة ليست دعوة لإهمال أو تقليل من أهمية إنجازات الفرد، لكن الهدف هي محاولة لإعادة توجيه البوصلة لمكانها الصحيح، ونفض الغبار حتى يتسنى لنا رؤية الأمور بشكلها ومكانها الصحيح، تذكير أخير بأن الحياة وجدت لنا لتكون طريق نسلكه نحو معيشة كريمة، ولم تأتي لنجعلها حمل ثقيل الذي نرهق أنفسنا بحمله خلف ظهرنا. وتأكيدًا لهذا المقصد، ذُكر في العديد من الآيات منها﴿سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ ﴾أن كل مافي الكون هو موجود مُسخر للإنسان ولأجل الإنسان أولاً، وليس العكس. من السماء التي فوقنا وحتى أعمق نقطة في الأرض موجودة لتمكين الإنسان وتذليلاً لطريقه وتمهيدًا لعيش حياة كريمة. بمعنى آخر، الحياة للإنسان وليست على الإنسان، الخيارات التي نختارها، والتجارب التي نخوضها، والعثرات التي نقع فيها، كل تفاصيل الحياة هذه تشبه اللبنات التي تصطف جنبًا إلى جنب لتُشيد لنا الحياة!

التعليقات (٠) أضف تعليق

أضف تعليق

بريدك الالكترونى لن نقوم بأستخدامه. الحقول المطلوبه عليها علامة *

You may use these HTML tags and attributes:
<a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>

*