المتنبي هو ذلك الشاعر الطموح الذي يتطلع الى غدٍ أجمل والذي جعل من حقيقة الموت موضوع ونقطة لإستحثاث الهمم وعدم الخوف من المستقبل والسعي في البناء و العمل وعدم التوقف وإنتظار حقيقة الفناء . ففي بيت الشعر الذي قاله : ( لا تَلقَ دَهرَكَ إِلّا غَيرَ مُكتَرِثٍ مادامَ – يَصحَبُ فيهِ روحَكَ البَدَنُ ) نجد دعوة واضحة من المتنبي لعدم الخوف مادامت الروح في البدن وما دمت حيًا، لأنه ذكر وفي مواضع كثيره من شِعره أن الموت ليس النهاية. وكما نقول بلهجةٍ عامية ( الإنسان ميت ميت ) فهو إستغل هذه النقطة الحتميّة الوقوع في دعوة الناس لعدم الخوف والركود والسكون. كذلك حينما نتأمل ماقالهُ في قصيدةٍ أُخرى :
( إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ
فَلا تَقنَع بِما دونَ النُجومِ
فَطَعمُ المَوتِ في أَمرٍ حَقيرٍ
كَطَعمِ المَوتِ في أَمرٍ عَظيمِ). نرى المتنبي هنا وبأسلوبهِ الجميل كأنهُ يقول طعم الموت واحد في جميع الأحوال ، فالأفضل أن تختار الأحسن والأشرف لك فإن الموت واحد وبهذا جعل الموت شيئًا إيجابيًا يحث الإنسان على المغامرة وعدم الخوف في هذهِ الدنيا.
ولكن في الضفةِ الأخرى نشاهد رهين المحبسين أبو العلاء المعري الفيلسوف الأعمى، أعمى البصر وليس أعمى البصيره. هذا الشاعر الفيلسوف الحزين الذي لايرى مِن الحياة سوى الموت في أغلب شعره، فمثلًا في نهايةِ حياتهِ قال أكتبوا على قبري(هذا جناهُ أبي عليّ – وما جنيتُ على أحد)وهُنا تتضح السوداويه ويتبين الحزن في حياة المعري بأكملها لأنه يقول القبر جناهُ أبي عليّ ويقصد بذلك أن والده هو من أحضره إلى هذه الدنيا والمعري بنفسه لم يجنِ على أحد لأنه مات ولم يتزوج وبذلك لم يُحضر أحد إلى هذهِ الحياة ليشقى ويُعاني وتكون نهايتهُ القبر ، فهذا البيت بمثابة طن مِن التشاؤم .
وكذلك يقول الفيلسوف المعري :
( إنّ حُزْناً في ساعةِ المَوْتِ
أضْعَافُ سُرُورٍ في ساعَةِ الميلادِ)
دائمًا الناس يبحثون عن الذي يُنسيهم حقيقة الموت ويشجعهم ويُحفزهم ولن تجد ذلك إلا بشعر المتنبي وحياتهِ وقصصه ، ذلك الشاعر الطموح الذي صعد الجبال وأنشد بأعلى صوت(عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ )
ولكن إن كنت تبحث عن الفلسفه فالمعري هو الفيلسوف الذي لا يقهر في زمانه ويكفيكَ حينما قال :
(وَنَومِيَ مَوتٌ قَريبُ النُشورِ
وَمَوتِيَ نَومٌ طَويلُ الكَرى).. ورغم تأثر المعري بالمتنبي إلا أنه لم يتبع منهجهُ في الشعر وأسلوبه فالمعري أخرج من أعماق الأرض أسلوبه الخاص و الجديد في كتابة الشعر حتى قيل : إذا كان المتنبي شاعر يتفلسف.. فالمعري فيلسوف يتشاعر.. وهم بذلك إنتزعوا صفة الشاعر منه وربما تعود الأسباب إلى أن موضوع الفلسفه غلب في شعرهِ وأنا أرى غير ذلك تمامًا.. فبالرغم من شعرهِ الكئيب إلا أنه يحتوي على حكم ومواضيع تدعو للتفكر وهذا هو جوهر الشعر والشاعر.
ولكي تتضح لكَ صورة المعري فأدعوك لقراءة هذه الأبيات التي نظمها هذا الشاعر الفيلسوف :
إِن يَقرُبُ المَوتُ مِنّي
فَلَستُ أَكَرَهُ قُربَه
وَذاكَ أَمنَعُ حِصنٍ
يُصَبِّرُ القَبرَ دَربَه
كَأَنَّني رَبُّ إِبلٍ
أَضحى يُمارِسُ جُربَه
أَو ناشِطٌ يَتَبَغّى
في مُقفَرِ الأَرضِ عِربَه
وَإِن رُدِدتُ لِأَصلي
دُفِنتُ في شَرِّ تُربَه
وَالوَقتُ مامَرَّ إِلّا
وَحَلَّ في العُمرِ أُربَه
كُلٌّ يُحاذِرُ حَتفاً
وَلَيسَ يَعدَمُ شُربَه
وَالنَزعُ فَوقَ فِراشٍ
أَشَقُّ مِن أَلفَ ضَربَه
يا ساكِنَ اللَحدِ عَرّف
نِيَ الحِمامَ وَإِربَه
وَلا تَضِنَّ فَإِنّي
ما لي بِذلِكَ دَربَه