تعد ثقافة الاستهلاك من أبرز عوائق الاستقرار الأسري في المجتمعات المعاصرة، خاصة عند أولئك الذين يعتقدون أن شراء المزيد من المنتجات والحصول على أكبر قدر من الكماليات علامة من علامات التقدم والرفاهية، وهذا يؤدي بهم إلى الوقوع في فخ (المظاهر) على حساب الحاجات الأساسية في حياتهم.
وهم بذلك في حاجة إلى (كنز) يحقق لهم السعادة والعيش الكريم، لكنه ليس الكنز الذي يشير إلى الثروة المادية، إنما هو شيء آخر أودعه الله في النفس الإنسانية، من أخذه فقد أخذ بحظ وافر، إنه القيمة العظيمة ذات التأثير البالغ في سلوك الفرد وميوله واتجاهاته نحو مفهوم الغنى والفقر، هذه القيمة هي (القناعة) وهي رضا الفرد وسعادته بما قسم الله له من النعم. بل ذهب بعض المفسرين إلى القول بأن الحياة الطيبة هي (القناعة) في قوله تعالى: “فلنحيينه حياة طيبة” [النحل: 97]، وذلك لأن من يقنع بما لديه لا يكثر تعبه في مطاردة ما فاته، فتطيب نفسه ولا يتكدر عيشه، ومما اشتهر في هذا المعنى قول ابن الجوزي رحمه الله: “من قنع طاب عيشه، ومن طمع طال طيشه”.
“القناعة كنز لا يفنى” ومن استطاع التحلي بها فقد اكتسب في داخله قوة تمنحه القدرة على ضبط سلوكه الاستهلاكي، والحرص على ألا يخسر متعة الأشياء التي يمتلكها في سبيل البحث عن أشياء ليست في ملكه. وهذا لا يعني عدم السعي إلى تحقيق ما هو مباح ومتاح من أهداف في مختلف مناحي الحياة. بل الحياة كلها سعي وطلب، وفيها من المتاع الحسن ما تتوق إليه النفس البشرية بطبيعتها، فالمال من زينة الحياة الدنيا، والسفر وشراء المقتنيات الجميلة والمركب الهنيء والذهاب إلى المنتزهات والألعاب وغيرها، كلها من مطالب الترويح والترفيه، ولكنها ليست لكل أحد، وإنما هي متعة لمن استطاع إليها سبيلا، أما غير المقتدر فقد تعود عليه بالحزن والكدر؛ لأن ذلك قد يؤدي به إلى مشكلات مالية يصعب التخلص منها. ولذلك؛ من المهم ضبط الرغبات بميزان الأولويات، وكبح جماحها بمزيد من الوعي عن أثرها على حياة الفرد والأسرة.
وإذا كان من المسلّم به أن (أولويات الحياة) تختلف من فرد لآخر بحسب الطبقة الاجتماعية التي يعيش فيها، والحالة المادية التي يكون عليها؛ فإن اللذة المتعلقة بها تختلف تبعاً لذلك، مما يعني أن قيمة الشيء لدى الفرد تحدد درجة استمتاعه به. فعليه أن يفتش بين (قناعاته)عن التصورات الخاطئة لديه، مهتدياً في ذلك بهدي الإسلام. وحري بمن أراد الحياة الطيبة أن يكون منهجه هذا الهدي العظيم، الذي دعا إلى شكر الله على النعم والرضا بما قسم، قال تعالى: “فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين” أي اقنع بما أعطيتك كما جاء في تفسير القرطبي رحمه الله. كما دعا إلى اتباع وصية النبي ﷺ حيث قال: “انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم” (صحيح مسلم). ولعل من أسباب الرضا ألا يقارن الإنسان نفسه بمن يفوقه في نعيم الدنيا، وعليه أن يعيش في حدود إمكانياته، ويستمتع بما يملك، ولا ينخدع بأساليب التسويق التي تشجع على زيادة الاستهلاك، ولا يستدين إلا للضرورة، وعليه مراجعة أفكاره وتصوراته عن قيمة الأشياء في حياته، فما بين القناعة والقناعات توجد مفاتيح الكنز.
المشاهدات : 356
التعليقات: 0