إبراهيم خفاجي شاعر الناس والوطن

إن إلقاء نظرة على ما قام نادي الأحساء الأدبي بطباعته، وقد تجاوز “المائة وثمانية كتب” تجعلنا أمام حقائق متعددة لعل أبرزها : ذلك التنوع الثقافي والإبداعي لمؤلفاته، وإعطاء الفرصة للمبدعين والأكاديميين والمثقفين، كلٌ يكتب بما يجيد فيه من منطلق انفتاح النادي على مناحي الثقافة بمفهومها الواسع ما بين الإبداع الشعري، والقصصي والروائي والمسرحي، وكذلك الدراسات النقدية والأسلوبية المتعددة، يظللها بحوث ملتقى (جواثا) في دوراته الخمس، فضلا عن روائع من الشعر الإنجليزي، وشعر الأطفال والأسس المنطقية للغة العربية، ولهجة الأحساء…وغيرها.
وهذا ما جعل النادي يضع الجميع في بؤرة اهتماماته ملبيا كل التطلعات من خلال تعدد المناشط والفعاليات التي وجدت الأرض الخصبة لنمائها وازدهارها من خلال الرصد التوثيقي لها من ناحية، وإبراز المتميز منها في مؤلفات تؤكد مواكبة النادي لرؤية المملكة 2030م، وما رسمته الدولة من أهداف وخطط مدروسة للنهوض بالثقافة السعودية من ناحية ثانية، ومن ثم كان دور النادي اتساع رسالته التي حرص القائمون على إبرازها والاضطلاع بها.
ويأتي هذا الكتاب ليقدم رؤية لعلها تكون متكاملة تتجاوز التجميع والتوثيق إلى دراسة تجربة شاعر لقب بالعديد من الألقاب منها: شاعر الوطن، وشاعر السلام الملكي، وشاعر الناس، وجواهرجي الأغنية السعودية للوقوف على مميزات شعره الفنية والبنائية، فالشاعر الذي دخل قلوب الناس، وتغنى بالوطن جدير بدراسة تملأ الفراغ النقدي في الاهتمام بشاعر القصيد والنشيد شاعر الذات والوطن.
وجاء الكتاب الذي ألفه الأستاذ الدكتور ظافر بن عبد الله الشهري عميد كلية الآداب بجامعة الملك فيصل ورئيس نادي الأحساء الأدبي في مقدمة وأربعة أبواب أعقبتها خاتمة فقائمة المراجع، وانتهى الكتاب بملحق لصور مختارة لتكريم الشاعر الكبير في مناسبات شت.
وجاء الباب الأول متناولا إبراهيم خفاجي الإنسان والشاعر في فصلين توقف الأول منهما عند حياته، ومولده بحي “سوق الليل” بمكة المكرمة ولقب بالخفاجي نسبة إلى قبيلة خفاجة العدنانية المضرية القيسية، وعُرف منذ نشأته بالنشاط والحيوية ،فتنقل بين العديد من قرى المملكة ومدنها، كما آثر مواصلة مشواره التكويني فالتحق بمعهد الإدارة بمصر، ولم يكن حريصا على إنجاح مسيرته العلمية والمهنية فحسب، بل كان شغوفا بالإبداع الفني فُعرف بقدرته الرائعة على تأليف القصائد الغنائية المتنوعة، وجاء الفصل الثاني من الكتاب مبرزا مسيرة الشاعر فقد رصد جدولا بين أهم قصائده المغناة، وقد غنى له أغلب الفنانين المشهورين.
ومن ثم فقد نجح بفضل قدرته على الابتكار والإبداع أن يثري المكتبة الفنية العربية ويستقطب لها العديد من الأصوات المميزة، ويأتي في مقدمتهم الفنان محمد عبده الذي تغنى بعدد كبير من قصائد إبراهيم خفاجي لكونه وجد فيه الأب الروحي فاستفاد من نصائحه وتوجيهاته فكانت تلك العلاقة المتينة بين الشاعر والفنان تمثل صورة من صور التناغم العميق بينهما، ومرجع ذلك إنما يعود إلى التناغم بين صوت الشاعر وصوت المغني.
وتناول الباب الثاني المضامين الشعرية في ثلاثة فصول: الأول أبرز الشعر الوطني الذي كان الأوفر حظا من سائر المعاني المطروقة في أشعار إبراهيم خفاجي ، فلم يكن شاعر المملكة العربية السعودية فحسب، وإنما كان يعد شاعر الوطن العربي كله يتغنى بالعروبة ومبادئ الدين الحنيف فتطرق الكتاب للبعدين الوطني والقومي.
إن صياغة الشاعر للنشيد الوطني بكلمات تعلق بالقلوب وتسري مع الأيام لحنا يردده الدهر ويلهج به الزمان قبل أن يلهج به أبناء الوطن وحماة العرين والراية لدليل على أن اختيار إبراهيم خفاجي لهذه المهمة كان بحق الوحيد القادر على صياغة رائعة تبرز عطاءه لدينه ووطنه وأمته ، كذلك توقف الكتاب عند قصائده في اليوم الوطني وملوك البلاد حماة الوطن والبعد القومي ، كما جاء الفصل الثاني مبرزا الشعر الغزلي و كشف فيه عن صورة العاشق وصورة المعشوقة في شعر إبراهيم خفاجي، كما تعددت الأغراض الشعرية في الفصل الثالث ما بين الشعر الديني وشعر الرثاء والإخوانيات والشعر الاجتماعي، وفي ذلك ما يؤكد اتساع الأغراض الشعرية عند الشاعر حيث تتنوع بتنوع المناسبات والبواعث التي تحفز قريحة الشاعر وتمده بفيض من المعاني والمشاعر التي يترجمها شعرا عذبا تنساب معانيه صافية رقراقة بصفاء الشاعر نفسه وعفويته الغنائية التي جعلت منه رائدا في هذا المجال الشعري عن غيره من شعراء عصره.
وتناول الباب الثالث من الكتاب الأساليب الفنية في شعر إبراهيم خفاجي فلقد ربط بين التجربة الفنية للشاعر وشخصيته المتميزة الفريدة فتوقف في الفصل الأول من هذا الباب عند خصائص اللغة والأسلوب مبرزا خصائص اللغة الشعرية من ناحية والخصائص الأسلوبية من الناحية الثانية، أما الفصل الثاني فكان لإبراز جماليات التصوير من خلال الصورة الشعرية في السياق الغزلي والصورة الشعرية في سائر الأغراض، على حين اختص الفصل الثالث بجماليات الإيقاع سواء في المفردات أو إيقاع البحور أو إيقاع الجملة الموسيقية التي تظل أهم ميزات الخفاجي كاتبا للقصيدة المغناة ومن مظاهر أهمية هذه الوحدة وميزاتها أنها تصهر داخلها جميع الوحدات الإيقاعية (من الصوت والمقطع إلى المفردة، وما يتبع ذلك من تفعيلة وبحر عروضي)، ويميز جملة الخفاجي الموسيقية أنها حسنة الصياغة خفيفة الوقع على الأسماع، وقام الكتاب بعرض أمثلة متعددة لفهم ثنائية خفة الوقع وحسن الصياغة.
على أن الباب الرابع من الكتاب جاء مختصا بأصداء التجربة الشعرية فكشف الفصل الأول عن المكانة الكبيرة التي احتلها الشاعر مما جعل العديد من الجهات ترى فيه رمزا وطنيا يجب تكريمه والاعتراف بدوره في المنجز الثقافي الوطني السعودي فسارعت في تكريمه ومنحه ما هو جدير به من استحقاقات وجوائز في حياته.
أما الفصل الثاني من هذا الباب فرصد أصداء رحيل الشاعر الكبير حيث كان لخبر وفاته وقع كبير على الأسرة الثقافية بشكل عام والفنية على وجه الخصوص فقد خلف رحيله وجعا عميقا داخل المملكة وخارجها….