كنت أتمشى بين أروقة معرض قديم، أراقب التحف كأنها بقايا أرواح تنبض بحكاياتها، في زاوية شبه مظلمة، لفتت انتباهي ساعة نحاسية ضخمة، نقوشها تحمل رموزًا لم أرها من قبل. اقتربت ببطء، مددت يدي ألامس سطحها البارد، وفجأة بدأت عقاربها تدور بجنون… وانبثق منها ضوء ساطع اخترق بصري حتى شعرت أن الأرض انزلقت من تحت قدمي.
غمرني الظلام، صمت ثقيل، ثم انشقّت العتمة عن ضوء جديد ألقى بي وسط ورشة أوروبية في بدايات القرن العشرين. أصوات المطارق تتردد، والبخار يملأ المكان برائحة المعدن الساخن، رجال بقبعات قماشية ومراويل جلدية يكررون الحركات ذاتها، ومشرف يقف خلفهم يصحح بإيماءة حادة. هنا التدريب بسيط ومباشر، يولد من قلب العمل، حيث الإتقان هو لغة البقاء.
لكن المشهد لم يدم طويلًا؛ اندفعت ومضة بيضاء أقوى من الأولى، أحاطت بي حتى ابتلعت كل شيء، ثم أفرجت عني في معسكر عسكري آسيوي. صفوف الجنود تتحرك بخطوات منسقة على إيقاع الطبول، والمدرب يصيح بالأوامر بنبرة صارمة، وجوههم مشدودة، وأعينهم تحمل مزيجًا من القوة والانضباط. التدريب هنا يغرس الولاء قبل أن يصقل المهارة، ويبني روح الجماعة قبل أن يحرك الأجساد.
لم تمهلني اللحظة، إذ اخترقني ضوء ثالث، يليه صمت قصير، ثم وجدت نفسي في قلب مدينة أمريكية خمسينيات القرن الماضي. قاعات اجتماعات أنيقة، طاولات كبيرة، وأشخاص يناقشون خططًا على ألواح ورقية ضخمة. التدريب لم يعد نشاطًا عرضيًا، بل صار جزءًا من استراتيجية المؤسسات، يحلل الاحتياجات ويصنع قادة المستقبل.
وبينما أستمع إلى أصوات النقاش، اجتاح المكان ضوء جديد، قذف بي هذه المرة إلى أفريقيا في السبعينيات. قاعة دائرية تفيض بالحيوية، مدرب كاريزمي يروي قصة صياد شجاع، والمشاركون ينصتون بشغف، يضحكون، ويتفاعلون. التدريب هنا يلبس عباءة الثقافة المحلية، يمزج الحكمة بالمرح، ويلامس القلب قبل العقل.
لم تتركني الساعة أستقر، ومضة أخرى حملتني إلى اليابان في الثمانينيات. قاعة مرتبة بدقة مذهلة، المتدربون يجلسون بانتباه أمام دفاترهم، والمدرب يشرح بهدوء محسوب، كل شيء مضبوط بالدقيقة. هنا التدريب فلسفة حياة، مبدأ التحسين المستمر حاضر في كل حركة ونظرة.
وفجأة، ومضة أخرى، لكن هذه المرة ممزوجة بصوت مدينة متسارعة. وجدت نفسي في دبي بداية الألفية الجديدة، قاعات فاخرة، شاشات عرض رقمية، مترجمون فوريون، ومدربون من جنسيات متعددة يتبادلون الخبرات. التدريب صار جسرًا يربط العالم، يجمع بين ثقافات مختلفة في حوار واحد.
ثم جاء الضوء الأخير… لم يكن مثل أي ومضة سابقة، كان أكثر سطوعًا حتى شعرت أنه أضاء الأرض كلها. تتبعت وهجه بعيني، فرأيته ينطلق من أرض الحرمين، من مهد الرسالة، من المملكة العربية السعودية. هناك ارتفعت منارة شامخة تبث نورًا يجمع بين أصالة القيم وعصرية المعرفة.
رأيت المدربين من كل أنحاء العالم يقصدونها، كما كان طلاب العلم يفدون إلى منابع النور قديمًا، ليحملوا ما يرتقون به هم وأوطانهم. أدركت أن كل ما مررت به، وكل الثقافات التي شهدتها، لم تكن إلا فصولًا في كتاب واحد… كتاب حضارة التدريب التي تكتمل اليوم هنا، بقيادة حكومتنا الرشيدة، لتصنع ما يستحق أن يُقال عنه بحق: “التدريب المعاصر”… تدريب يقود بالرسالة، يبتكر بالعلم، ويؤثر بالإنسان.
حين عاد الضوء ليحيطني للمرة الأخيرة، كنت أعلم أنني لن أعود كما كنت…
فقد عدت وأنا أحمل شهادة الأزمنة، وأؤمن أن التدريب، مهما اختلفت وجوهه، سيظل دائمًا رحلة تبدأ وتنتهي بصناعة إنسان أقوى وأقدر على صناعة أثره في العالم.
