رأيت طائرًا يحلّق خلف سربٍ كبير، يرفرف بجناحيه ببطء وقد أرهقه طول المسير. لم يكن في المقدمة، ولا في قلب التشكيل، بل في آخر الركب، يلهث وراء الآخرين وكأنه لا يعرف لماذا يتبعهم ولا إلى أين يذهب. كان يتبعهم فقط لأنهم يطيرون، يسير بخطواتهم لأنه لا يملك جرأة أن يسأل: هل هذا هو طريقي حقًا؟
ومن تلك اللحظة أدركت أن هجرة الطيور ليست دائمًا حكمة. فالهجرة أحيانًا وعيٌ بالحياة، وأحيانًا أخرى مجرد عادة تُنهك بلا معنى.
فالطائر الذي يفتح جناحيه ليعبر آلاف الأميال بحثًا عن الدفء والماء والخصب، يفعل ذلك لأنه يعلم أن البقاء في أرضٍ جفت مواردها موتٌ مؤجّل، وأن التغيير قانون البقاء. لكن الطائر الذي يترك المروج الخضراء والأنهار الجارية ليرحل بلا سبب، لم يرحل وعيًا بل انساق وراء عادةٍ فارغة، وهاجر لا ليعيش بل ليفقد الحياة بين فينات الطريق.
وهناك من يهاجر مع السرب دون أن يعرف كيف يسير أو أين يصل، يرفرف لأنه يرى غيره يرفرف، يتجه معهم لأنه يخشى أن يتأخر، وقد يصل لمكان لا يحتاجه، أو ينتهي به المطاف منهكًا في منتصف الطريق.
إن الهجرة ليست رفرفة جناح ولا مجرد مسافة مقطوعة، بل بوصلة داخلية تعطي الرحلة معناها.
فالطيور التي تعرف غايتها تعود دائمًا أقوى مما كانت، محمّلة بخبرة الطريق الطويل، أكثر صلابة وأوسع أفقًا، أما التي رحلت بلا هدف أو انساقت خلف غيرها، فإنها تعود خاوية، أو لا تعود أصلًا.
إن الهجرة درس عميق يخبرنا أن الحياة لا تُعاش في الجمود، ولا تُهدر في تقليدٍ بلا معنى.
إن الرحيل قرار، إما أن يصنع فيك وعيًا جديدًا أو يسرق منك ما كنت تملكه من قوة. وما أجمل أن نتعلم من الطيور أن نمنح أجنحتنا للأرض التي تستحق، لا للأرض التي ضاقت علينا، ولا للأرض التي لم نختَرها بوعينا.
وحين تهاجر الطيور، فهي تذكّرنا أن النجاح ليس في البقاء ساكنين ولا في الارتحال المستمر، بل في أن نعرف:
متى نغادر،
متى نبقى،
وأي أفق يستحق أن نحلّق نحوه.
جدد، غيّر، ابتكر…
جدد ما اعتدت عليه، فالتكرار دون وعي موت بطيء.
غيّر ما يقيّدك، فالثبات على الجمود وهم يسرق عمرك.
ابتكر بجرأة، فالأثر لا يُصنع باتباع خطى الآخرين.
اصنع عالمك بيديك، فلن يمنحك أحد مفاتيحه إلا إذا كسرت أقفال التقليد وفتحت أبوابك الخاصة.
إن أسرار النجاح لا تُعطى جاهزة، بل تُكتشف بالتجربة والصبر، وتُنتزع بالبحث والإصرار. ومفاتيحه لا توزّع على قارعة الطريق، بل تُنحت في داخلك حين تختار أن تكون مختلفًا، واعيًا، وصاحب بصمة لا يكررها الزمن.
اجعل شعارك أن تكون أنت البداية لا الامتداد، وأن تترك أثرًا لا نسخة، فهكذا يُكتب لك مكانٌ بين الناجحين
