فيما مضى قبل اسابيع من اليوم الموافق 25 مارس2020م، كنّــا نملّ من تزاحم النعم، وجدول الأعمال، وتعددية الترف، وصراخ الأطفال، وطلبات الزوجات، وحريّة التنقّــل، وكثر التواصل، وزحمة الشارع، وازعاج الجيران، ودعوات الأعراس، وعروض التخفيضات في الأسواق، وحكايات المسافرين حول العالم، ومغامرات الدجالين في السناب شات، ولكن بين عشية وضحها أصبحنا اليوم نستجدي اللـمسة الحانية من أٌقرب الناس، و الجلسة الهادئة مع أحبابنا، والصحبة الوفية في استراحاتنا، وإفطار الصباح في أعمالنا.
نعم لم نحسب لهذا اليوم حساباً، لأنّنا لم نتوقع أنْ يصاب العالم كله بشللٍ تام، لم يبقى منه إلا العينين التي ترى الموت في كل مكان، والأنوف التي تشمّ رائحة الحنوط، الذي يفوح من الجثث، إنْ وجدت من يغسلها ويقبرها.
كنّا فيما مضى عندما ضربت كورونا الصين، نرى أنّ العالم المتقدم علينا حضارياً وعلمياً في أمريكا وأوروبا، سوف يوفر لنا الدواء، كما وفر لنا وسائل التقنية، ولكن للأسف وقفت الدنيا حائرةً بعلمائها وجيوشها ومصانعها أمام هذا الفايروس الخفي، الذي لا يُرى بالعين المجردة، فسلب الأحبة من بعضهم، وهز الاقتصاد، وغير السياسيات، وحيّر القدرات، حتى أصبحت تلك الدول العظمى، تتذلل لمن ينظر لها بعين الشفقة، فالحياة بها تعطّــلت، والأحوال تبـدلّت، ولم يبقى إلا رحمة الله تعالى تنقذهم مما ألمّ بهم، فمــا بالكم بنا؟.
قال الله تعالى: { وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا}.
أحبتي:
لست هنا بمعرض اسقاط مراد الله تعالى في الآية الكريمة على حالنا أو حال غيرنا من الأمم، ولكن الذي أريد قوله، هو أنّ قدرة الله التي يعجز البشر عن إدراكها ابعادها، وقفوا أمام جندي من جنوده في عجزٍ تام، لم يرسله لقريةٍ واحدةٍ فحسب، بل للعالم كله، لأعظم حضارة وصل لها الإنسان، الذي شقّ الجبال، وصعد السماء، وعبر المحيطات، بكل يسر وسهولة، حتى أصبح يتنقّـل من مشرق الأرض إلى مغربها في ساعاتٍ معدودة، و يستطيع عبر اختراعاته وقدراته أنْ يكون حاضراً بالصوت والصورة في أجزاء من الثانية، في أي مكان، ولكنّ اليوم أصبح يبكي حائراً خائفاً من الإبادة الجماعية. هــل تعلمون لماذا؟
قال الله تعالى: { كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}.
إنّ الغرور الذي يحدث للإنسان عندما ينعم الله عليه بالمال والقوة والصحة، يجعله يطغى وينسى سبب وجوده في هذه الدنيا، وهي عباده وحده، وتسخير كلما أفاء الله عليه به في طاعته، ولكن كثيراً من البشر حالهم كحال أبي جهل، الذي ظنّ أنّ عشيرته وقوته وماله وولده، سوف تحميه من قدرة الله عليه، فكذّب وعصى، فحق عليه موعود ربه أنْ يهلكه.
إنّ العالم اليوم أصبح في هرج ومرج، فوضع نفسه في سجن جماعي ، بسبب عدو لا يراه، وجلس يترقّـب متى يملّ هذا العدو ويذهب عن بابه ليخرج مرة أخرى للحياة من هذا القبر، الذي لا يسمع فيه قرع نعلي أحد، وإنّـما صرخات الألم والعذاب التي تلفّ مكانه، ولكنّ بين هذا وذاك تبقى رحمة الله أوسع وقدرته أكبر، ومكتوبه أسرع في انقاذ البشرية، لذا يجب علينا نحن المسلمين الذين أكرمهم الله بالتوحيد أنّ نسلّم بقَــدَره علينا ، وأنْ نراجع حساباتنا معه، وأنْ نهرب إليه بالدعاء والتقرب بالطاعة، فكم من تهاون في الصلاة، وكم من قطيعة رحم حصلت، وكم من غرور حدث ، وكم من أكلٍ لحقوق الآخرين، بسبب غفلتنا.
إنّ كورونا قد أدبتنا، وأيّ أدب ؟ فقد أحرمتنا من متع الحياة كلها ، حتى أصبحنا نحلم ببعض الجمال الذي كان يمرّ بنا ولا نلقي له بالاً، فالخوف الذي يمتلكنا اليوم، لم يعد يجعلنا نفكر إلا متى نعود لبعض حياتنا السابقة، ولكن هيهات، لأنّ كورونا درس إلهي للبشرية، لذا يجب أنْ نستثمره في التكاتف والتعاضد والتوعية الجماعية بخطورته علينا، وعلى مستقبل أبناءنا ووطننا، وأنْ نعيد ترتيب حياتنا وأولوياتنا ومعاملاتنا، فلديه يقين أنّما بعد هذا الوباء الذي ملأ البر والبحر بالموت إلا فرج أتٍ، ولكن بقوله تعالى: { اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا }.
أحبتي:
إنّ الحياة بعد كورونا – بإذن الله – لن تكون هي كما كانت قبله، فسيكون للصلاة في المسجد معنى، ولاحتضان الأحباب قيمة، ولصلة الارحام جمال، وللضحك مع الأصدقاء فرح ، لذلك أعدوا العدة لتغمركم رحمة الله، فلمْ يقع بلاء إلا بمعصية، ولم يرفع إلا بتوبة، لذا أرجو أنْ يكون بعد فرج الله علينا من هذه الغمّة، تصحيح لحساباتنا مع الأخرين وتغيير جذري لعاداتنا الخاطئة، وأنْ نعمل جنباً إلى جنب في كل ما يمكن أنْ يحفظ حياتنا ووطننا.
همسة:
لسنا ملائكة لا نخطئ ولكننا مؤمنين أن رحمة الله أوسع لنا من ذنوبنا.
بقلم:
عبدالرحمن القراش